مثقف بين أبوبكر سالم وأنطونيو غرامشي: حين تصبح الأغنية فلسفةً بلسان الشعب
في لقاء تلفزيوني شهير رفض الفنان اليمني أبو بكر سالم بلفقيه توصيفه بالمثقف، مؤكدًا أن موسيقاه وغنائه منبعهما الشعبوي وتجسدان قيم مجتمعه. جاء هذا الموقف المتواضع رغم الشعبية الفائقة التي حازها منذ الخمسينيات؛ فقد جمع بين الشعر الفصيح والأداء الأصيل، فوصَفه بعض المثقفين بأنه «مثقف الفنكما نال جوائز ثقافية وفنية مرموقة، من بينها جائزة اليونسكو لأفضل صوت لقد عبّر بذلك عن مبدأ يرى أن الثقافة تنتشر بأفعال الناس وإبداعاتهم، لا بالألقاب. إن موقفه هذا كان دعوة لإعادة التفكير في مفهوم المثقف، فقد اعتبر سالم أن الثقافة والوعي نسيج مجتمعي يعود للجميع لا يختص به فئة دون أخرى.
تعريف المثقف حسب بارسونز وفيبر
في المفهوم الوظيفي لبارسونز يظهر المثقف كجزء من بناء اجتماعي ينشر منظومة قيم ومعارف تدعم تماسك النظام الاجتماعي. يرى بارسونز أن للمجتمع آليات عقلية لتنظيم السلوك، ويقوم المثقف بدور في إرساء التفاهم بين القيم الثقافية وأهداف الأفراد. وبشكل عام يعتبر بارسونز أن المثقف جزء من «النظام الثقافي الكلي»، فهو ناقل ومفسر للقيم التي تحكم المجتمع. من جهة أخرى، عرف ماكس فيبر المثقف بأنه «من يحمل صفات ثقافية وعقلانية مميزة، تؤهله للنفاذ إلى المجتمع. ويعني هذا أن المثقف إنسان مثقف الوجدان، عميق الثقافة، صلب الإرادة، وقادر على إقناع الآخرين بأفكار جديدة ونقد الواقع. وهكذا، يعمل المثقف كحلقة وصل بين ثقافة النخبة العامة وبين جمهور الناس، ويسعى لسد فجوة الفهم والمعرفة في المجتمع.
غرامشي والمثقف العضوي
شهد المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي نقلة في فهم المثقف عندما فرّق بين المثقف التقليدي والعضوي. فالمثقف التقليدي غالبًا ما يرتبط بالسلطة القديمة ويعيد إنتاج نماذجها، أما المثقف العضوي فينشأ من قلب طبقة اجتماعية فاعلة ويعبر عنها. فقد لفت غرامشي إلى أن «كل طبقة اجتماعية تنتج شرائح من المثقفين… لكل طبقة مثقفيها الذين ينشرون وعيها وتصوّرها عن العالم». وهذا يعني أن المثقف العضوي يتشكل وفق هموم مجتمعه ويؤسس فكره بناءً على واقعه الاجتماعي. ولهذا قال إن «كل إنسان هو إنسان مثقف، لكن ليس لكل إنسان وظيفة مثقف» ويعكس ذلك أن الثقافة متأصلة في جميع الأفراد، لكن مهمة المثقف أن ينطلق من واقعه ليترجم هذا الوعي إلى فعل اجتماعي ملموس يخدم مجتمعه. أما المثقف التقليدي فيظل منفصلاً عن الواقع الشعبي ويخدم النظم السائدة، بينما المثقف العضوي ينمو مع مجتمعه ويعبّر عن تطلعاته.
أبو بكر سالم نموذج المثقف العضوي
لم يقرأ سالم نظريات غرامشي، لكنه طبَّقها عمليًّا. انظر إلى أغنيته الأشهر “تسلّى يا قَلبي”:
“تسلّى يا قَلبي وشيل الهَمّ عنك
ساعة بَسَطْ تِسْوى حياتك كُلّها”
هذه الأبيات – البسيطة في ظاهرها – تحمل رؤيةً وجوديةً عن تقبُّل الحياة، لكنها تصل للجميع لأنها تنزل من البرج إلى المقهى.
أما أغنية “لا تُواجههم بشي عنك”، فهي تلخيصٌ لفلسفة التعامل الإنساني:
“مشكلة الناس إن رَضَيتهم عادَوك
وإن عادَيتهم طلبوا رِضَاك”
هنا لا تحتاج إلى شهادة في علم الاجتماع لفهم التناقض البشري؛ فالكلمات واضحة كالشمس.
تشكل تجربة أبو بكر سالم مثالًا حيًا للمثقف العضوي الذي تحدّث عنه غرامشي. فنّشأ في تريم ثم ازدهر فنيًا في عدن، حيث جمع بين الثقافة الصوفية لتراث شبام ومعارف اللغة العربية. رغم مسيرته التعليمية كمدرس، إلّا أن شغفه بالغناء دفعه لأن يؤدّي الشعر العامي والفصيح أغنى سالم حياة المستمعين بأغانٍ عن الحبّ والحنين والوطن والدين، مستخدمًا ألحانًا بسيطة تحمل معانٍ عميقة. فقد دعا في أغنيته «خاف ربك» إلى التقوى والصبر، وغنّى عن الفراق والألم مثل «ليل طويل». باتت أعماله وسيطًا تواصليًا بين الأجيال؛ فقد صاغ سالم جسرًا يربط الماضي بالحاضر، فصارت أغانيه جزءًا من ذاكرة شعبه وموروثه الثقافي.
الثقافة حق للجميع
تثبت قصة أبو بكر سالم أن الثقافة ليست حكرًا على نخبة واحدة. وكما أكد غرامشي، فالثقافة فطرية في كل إنسان، ومهمة المثقف أن يؤدي دوره في المجتمع. إن غناء سالم يبرهن أن كل فرد قادر على تعزيز وعقلنة مجتمعه؛ فالمعرفة لم تعد مقتصرة على الكتب والمحاضرات بل تسري عبر الأناشيد والقصائد والطقوس الشعبية. وبناءً عليه، تظل الثقافة عملية جماعية وديمقراطية يساهم فيها كل مبدع أو مشارك أو حتى مستمع يعي دوره. وفي الختام يتبيّن أن المثقف الحقيقي ليس بالضرورة أن يحمل شهادة جامعية فحسب، بل كل من يوظّف علمه أو فنه لخدمة مجتمعه. باختصار، المثقف الحقيقي هو كل من يحمل فكره وثقافته لإثراء مجتمعه، وقد جسّد أبو بكر سالم هذا الدور بامتياز. ولعل تسمية المملكة السعودية مسرحًا باسمه بعد وفاته تكريمًا لمسيرته، وتعكس مدى اعتراف المجتمع برسالته الفنية والثقافية.


