“كل يوم نواجه ضغطًا جديدًا ونحن عاجزون عن توفير لقمة العيش لأسرنا”، بهذه الكلمات الموجعة افتتح المعلم محمد سالم عمر (45 عامًا) حديثه معنا مُجسدًا واقعًا قاسيًا يعيشه معظم المعلمين في المحافظات المحررة نتيجة تأخر صرف مرتباتهم الضئيلة منذ نحو ثلاثة أشهر وسط صمت حكومي مريب وفي ظل انهيار غير مسبوق للعملة المحلية وارتفاع جنوني في أسعار السلع الأساسية.
بوجه يعلوه الأسى والتعب، يقول محمد سالم عمر، أحد المعلمين في محافظة أبين، في تصريحٍ له: “لم أعد أملك ما أقدمه لأطفالي، صرت أعود من المدرسة إلى البيت خالي اليدين وأرى الخيبة في أعينهم، وليس بوسعي سوى الصمت، نحن نموت ببطء يا حكومة أنقذونا”.
ويضيف بقلبٍ مكسور: “ما طلبنا المستحيل كل ما نريده راتبنا المشروع نلبي به جزءًا من احتياجاتنا مع الارتفاع الحاصل ونأكل به أطفالنا، المدرسة كانت زمان مكانًا نعلّم فيه، واليوم صارت وجع وهم يذكرنا كل يوم بعجزنا ولا أحد يشعر بمعاناتنا وكأن ما عاد لنا قيمة”.
وتصاعدت خلال الآونة الأخيرة شكاوى المعلمين في المحافظات المحررة من استمرار مسلسل تأخر صرف مرتباتهم وتدهور أوضاعهم المعيشية بشكل متواصل دون أي استجابة أو اهتمام حقيقي من الحكومة والمجلس الرئاسي لوضعهم أو تقدير حجم معاناتهم.
فصول بلا روح
داخل الفصول الدراسية لا تبدو الأمور أفضل حالًا، فالسبورات ممتلئة بالكلمات لكن قلوبنا كمعلمين فارغة إلا من الهموم، هكذا يصف المعلم ناصر محمود (55 عامًا) أحد معلمي محافظة الضالع وضعه المشابه لمعظم المعلمين في المحافظات المحررة الأخرى قائلًا: “نقف أمام الطلاب ونحن نحمل وجعًا لا يُحتمل نحاول أن نُخفيه خلف الابتسامة، لكن الحقيقة أن أذهاننا مشتتة، وعقولنا غارقة في التفكير بكيفية تأمين احتياجات أسرنا”.
وأضاف بأسى: “نشعر أننا نُدرس بأجسادنا فقط أما أرواحنا فمشغولة بما سنواجهه بعد انتهاء الدوام من ديون ومتطلبات لا نكاد نوفي بجزء منها جراء انهيار العملة وتدهور الأسعار بشكل مُخيف”.
ويؤكد عدد من المعلمين في المناطق التي لم يشملها الإضراب، أن الفصول الدراسية لم تعُد كما كانت، حيث انعكس غياب الاستقرار النفسي والاقتصادي على أدائهم قبل الطلاب، فتراجعت الدافعية وضعف التركيز، ولم يعد هناك شغف كبير مثلما كان سابقًا، الأمر الذي يدفع العملية التعليمية إلى الانهيار.
من يُنصف المعلم؟
أكد مسؤول في وزارة التربية والتعليم –فضل عدم ذكر اسمه– أن تأخر صرف مرتبات المعلمين في المحافظات المحررة لأكثر من شهرين يعد أمر غير مقبول وعبارة عن جرح عميق ينزف صمتًا في قلب العملية التعليمية ويهدد مستقبل أجيال بأكملها.
وأوضح أن الوزارة “تعلم جيدًا أن المعلمين لا ينظرون فقط إلى رواتبهم بل هم أرواح تعيش الأزمة، يحاربون الجوع، ويناضلون في خضم أزمة اقتصادية خانقة لا تتوقف أمامها إلا إرادتهم في التعليم”.
وأشار إلى أنه “لا يمكن للوزارة أن تتجاهل أن كل يوم يتأخر فيه صرف الراتب، يزداد الجرح عمقًا، ويزداد المعلم ضعفًا أمام متطلبات الحياة التي تنهش صبره وكرامته”، مناشدًا الحكومة والمجلس الرئاسي أن يعوا خطورة هذا الجرح النازف، وأن يتحركوا فورًا لإنقاذ المعلمين من واقع مؤلم لا يُحتمل، مؤكدًا أن “خسارة المعلم تعني خسارة الوطن”.
وبين الحين والآخر يُنظم المعلمون وقفات احتجاجية للتعبير عن استيائهم العميق من استمرار الأزمة التي تُنذر بانهيار العملية التعليمية، ومطالبة وزارة التربية والتعليم والحكومة والمجلس الرئاسي بتحسين أوضاعهم وضمان صرف مرتباتهم بانتظام إلا أن جميع مناشداتهم ومطالبهم لم تلقَ حتى الآن آذانًا صاغية أو تحملًا فعليًا للمسؤولية.
المجاعة تطرق أبوابنا
“رواتبنا اليوم لا تكفي حتى لشراء كيس دقيق، نحن نعيش مأساة حقيقية، والمجاعة لم تعد خطرًا بعيدًا بل أصبحت ضيفًا يوميًا يطرق أبوابنا ويستوطن موائدنا الفارغة” بهذا الوصف الموجع يستخلص المعلم صديق عبدالرحمن (48 عامًا) أحد معلمي محافظة لحج، الوضع العام الذي يعانيه المعلمون في المحافظات المحررة ويكشف حجم المعاناة والأوضاع الصعبة التي يواجهونها خلال المرحلة الحالية دون لفتة نظر من الحكومة لتحسين أوضاعهم وتمكينهم من حقوقهم المشروعة.
بصوت يتهدج بالحسرة يؤكد المعلم صديق عبدالرحمن في حديثه “عجزنا بشكل كامل عن تلبية أبسط احتياجات أسرنا من غذاء ودواء في وقت يتهاوى فيه الريال أمام الدولار وتزداد الأسعار بلا رحمة كل يوم نموت ولكن ببطء”.
ويضيف: “أصبحنا نقترض لنأكل ونستدين لنشتري دواء وأحيانًا نكتم المرض حتى لا نكسر قلوب أطفالنا، كثيرٌ منا اضطروا لترك السبورة والبحث عن أي عمل آخر ولو كان لا يليق بمكانة المعلم فقط ليبقوا على قيد الحياة”.
مُختتمًا حديثه بتوجيه رسالة إلى رئيس الحكومة قائلًا: “أليست مهنة التعليم كافية لتمنح المعلم ما يحفظ به كرامته؟ أليست رسالتنا السامية تستحق أن تحمي أسرنا من الجوع؟ نطلب فقط ما يسد رمق أطفالنا، ألا تستحق بطونهم الجائعة أن تُصان؟”.
خدمة دون تقدير
بألم يختصر حجم المعاناة، يؤكد المعلم الخضر هيثم (50 عامًا)، أحد معلمي محافظة عدن، في تصريحٍ له أن “أوضاعنا كمعلمين في المناطق المحررة صعبة جدًا وتفوق كل التصورات بسبب الأزمة الاقتصادية التي نواجهها، وما ينتج عنها من تحديات مرهقة أبرزها انقطاع الرواتب وتأخرها، فلم نستلم رواتبنا لشهري يونيو ويوليو وحتى اللحظة لا يزال مستقبل صرفها غامضًا رغم أن الغالبية منا تواصل أداء واجبها في تعليم الطلاب وخدمة العملية التعليمية بإخلاص”.
بنبرة يختلط فيها الحزن بالصبر يقول الخضر: “ما يحصل لنا من تأخر الرواتب هو تدمير ممنهج للعملية التعليمية، أوضاعنا مؤلمة وصرخاتنا تتعالى كل يوم دون أي استجابة، فقد أصبحنا غير قادرين حتى على تلبية أبسط احتياجات أسرنا”..ويضيف بصوت مكسور: “انخفضت القدرة الشرائية لرواتبنا الهزيلة، وأصبح الراتب لا يُسمن ولا يُغني من جوع، ولم نعد نملك ما يعيننا على الاستمرار بكرامة”.
ويعيش اليوم غالبية المعلمين في المحافظات المحررة أوضاعًا معيشية قاسية لم يسبق لها مثيل في تاريخهم التعليمي إذ يزداد هذا الوضع سوءًا مع مرور الوقت في ظل غياب أي حلول جذرية أو تدخلات حكومية جادة لتحسين وضعهم وضمان استمرارية صرف مرتباتهم بشكل شهري كما كانت سابقًا.


