> 

 > 

الأستاذ علي حارس الحروف والذكريات

الأستاذ علي حارس الحروف والذكريات

في صباحات مديرية الشيخ عثمان حين يتسرب نور الشمس بين جدران الحارة العتيقة ينهض الأستاذ علي خمسون عامًا من فراشه كأنه يوقظ المدينة معه خطواته رتيبة […]

دارة

دارة
26 أغسطس، 2025

في صباحات مديرية الشيخ عثمان حين يتسرب نور الشمس بين جدران الحارة العتيقة ينهض الأستاذ علي خمسون عامًا من فراشه كأنه يوقظ المدينة معه خطواته رتيبة صوته الداخلي يهمس: “كل كلمة تُزرع، كل قصة تُروى، كل قلب يُفتح هذه مهمتي”

هو هادئ لكن في هدوئه قوسٌ من الصبر، مرح لكنه يحمل نبرة جدية، صارم لكنه يعرف أن الحب أحيانًا أقوى من العتاب في مدرسة أحد أحياء المديرية يقف أمام السبورة الطبشور بين أصابعه كأنها عصا سحرية تفتح للطلاب أبواب الحروف والخيال.

اللغة العربية عنده ليست مجرد حروف وكلمات بل جسر بين حاضرهم وماضٍ لم يعرفوه وسلامة روح المدينة المبعثرة بين الأزقة والأسواق، الطلاب يجلسون على المقاعد الخشبية، بعضهم متلهف، وبعضهم يسرح بنظره إلى نافذة الفصل حيث البحر البعيد يبدو قريبًا في خيالهم يكتب على السبورة: “الكلمة نبض المدينة والحكاية هي قلبها” ثم يبدأ يروي لهم قصصًا من كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة، يتوقف عند كل حكمة، يترك صمتًا قصيرًا، ثم يسأل: “ماذا فهمتم؟” فيستجيب البعض، وينصت البعض الآخر، وهو يبتسم، لأنه يعرف أن الفضول أعمق من أي إجابة.

رحلة العودة من السبورة إلى دفتر التراث

مع غروب الشمس يغلق الأستاذ علي كل ما يتعلق بالمدرسة ولا يغلق قلبه عن المدينة يحمل دفتره القديم، الصفحات متشابكة بالحبر والصوت، ويأخذ طريقه إلى الحارة حيث يجلس حوله الأطفال والكبار هنا، يترك طبشوره ويصبح حارس الحكايات يروي عن البحارة الذين غادروا الموانئ بحثًا عن مصير عن الأغاني الشعبية على الأرصفة، عن الأمثال والحكم التي تشبه البحر في عمقها وامتدادها.

صوته هادئ لكنه ينساب كالموج يملأ المكان بالصور والألوان والأنغام، وكأن الزمن يعود إلى الوراء الأطفال ينظرون إليه بدهشة، بعضهم يضحك، بعضهم يغلق عينيه ويتخيل الزمن الغابر، والكبار يستمعون وكأن المدينة تتحدث إليهم من جديد عبر رجل واحد اختار أن يحفظ روحها.

الأسرة جذور القوة

الأستاذ علي ليس وحيدًا لديه خمس أطفال: ثلاث بنات وولدان الكبرى موظفة حكومية، الثانية ربة منزل، الثالثة طالبة جامعة، والولدان في الثانوية والإعدادية عائلته ليست مجرد مأوى بل جذر يمده بالقوة والثبات حين يجلس معهم بعد يوم طويل يروي لهم عن الكتب التي قرأها، عن الأزقة والشوارع، عن الناس الذين حملوا الحكايات قبل أن تُنسى.

دفاتر صغيرة تصون الذاكرة

الأستاذ علي يعرف أن الحكاية لا تبقى حيّة إلا إذا كُتبت يجلس في زاوية صامتة، يدون كل كلمة وكل قصة، كل أغنية وسرد شفهي دفتره ليس مجرد أوراق بل حصن منسي ضد النسيان كل صفحة تحمل روح المدينة، كل جملة تحفظها الذاكرة التي قد تتلاشى مع مرور الزمن.

الناس في الحارة يعرفون مكانته يأتون ليستمعوا ويشاركوه الحكايات، لكنه يعرف أن قيمته الحقيقية تُقاس بعدد الكلمات التي ستبقى حيّة بعد أن يرحل لا بعدد الحاضرين.

الأستاذ علي حارس الحروف والذكريات

مدينة بين البحر والجدران

عدن المدينة التي يعاش فيها تحمل أصوات البحر وروائح الأسواق والحارات لكنها تحمل أيضًا صمت الأزقة التي نسيت حكاياتها الأستاذ علي يعيش بين النهار والليل، بين المدرسة والحارة، بين التدريس والحكاية كل يوم جديد يمثل فرصة ليترك أثرًا، ليزرع كلمة، ليغرس قصة في روح طفل أو شاب.

هو يعلم أن عمله لا يحتاج إلى شهرة، ولا تكريم رسمي يكفي أن يرى الضوء في عيون الأطفال حين يفهمون حكمة القصة أو أن يسمع همس أحد الكبار: “لقد فهمت شيئًا لم أكن أظن أني سأعرفه”

خاتمة حارس الكلمات

حين تنطفئ الأضواء في الحارة ويعود الأستاذ علي إلى البيت، يضع دفاتره تحت الوسادة يعلم أن الغد سيأتي بصفوف جديدة وأسئلة جديدة، لكنه سيظل هناك: حارس الكلمات، حافظ التراث، رجل يجمع المدينة في قلبه.

الأستاذ علي معلم عاشق للغة، أمين للتراث، وأب ملتزم لكن كل كلمة يكتبها، وكل قصة يرويها، تصنع فرقًا أكبر من أي قرار رسمي، لأنها تحافظ على الهوية، وتضمن أن روح عدن لن تموت مهما تغير الزمان.