> 

 > 

أبو كريم رجل يبتلع الصمت

أبو كريم رجل يبتلع الصمت

أبو كريم ليس بطلًا خارقًا ولا متمردًا مسلحًا هو مجرد أب، رجل عادي، لكنه يحمل في داخله ثقل مدينة بأكملها دفتره الأسود

دارة

دارة
1 سبتمبر، 2025

يستيقظ أبو كريم كل صباح كما يستيقظ السجين على صرير باب الزنزانة ليس هناك من يناديه للعمل، ولا راتب ينتظره في نهاية الشهر، لكن العادة أقوى من كل شيء يغسل وجهه بماء بارد، يتأمل في المرآة ملامح رجلٍ لم يعد يعرف نفسه: تجاعيد متشابكة، عينان غائرتان، ووجه مثقل بالهزائم.

في جيبه الأيمن دفتر أسود صغير دفتر عمره من عمر الجوع منذ توقف راتبه عام 2016 صار يسجل فيه كل شهر بانتظام، جملة واحدة:
“شهر بلا راتب”
الدفتر اليوم ممتلئ كأن صفحاته شواهد قبر لرجل يتآكل حيًا.

دفتر الديون مرآته الوحيدة

كل صفحة هي صفعة تذكّره بكرامته المهدورة، بديونه المتراكمة، بجيرانه الذين صاروا دائنين أكثر منهم أصدقاء ذات يوم ذهب ليستدين للمرة الخامسة من البقال، فابتسم الرجل بسخرية وقال: “يا أستاذ، راتبك إذا نزل رجّع لي”
عاد أبو كريم إلى البيت محني الرأس هو لم يعد موظفًا بل مجرد متسول يحمل لقبًا بائسًا: موظف بلا راتب.

شاحنات المساعدات مسرحية العبور

من نافذة بيته يرى الشاحنات المليئة بالكراتين البيضاء تمر أمامه يوميًا تصدح شعاراتها عن “مكافحة الجوع” و”إغاثة المحتاجين” أبناؤه يركضون نحو النافذة يصرخون بفرح: “بابا، هذه لنا!” لكنه يعرف أن الكراتين لها طريق آخر وأنها ستختفي قريبًا في السوق السوداء.
لم تصلهم سوى كرتونة واحدة في ثلاث سنوات كرتونة هزيلة كأنها سخرية من جوعهم.

سلمى ظلّ حلم مؤجل

ابنته الكبرى سلمى، تجلس على الرصيف ساعات طويلة وهي تمسك كتبها الجامعة بعيدة، والطريق محاصر بالعُرف والقوانين: لا يمكنها أن تركب الباص دون محرم هو يعرف أنها تموت كل يوم وهي ترى زميلاتها يذهبن إلى قاعات الدراسة بينما تُحبس هي خلف النافذة لكنها بالنسبة له ليست سوى مرآة جديدة لهزيمته: أب عاجز رجل لا يملك أن يفتح باب المستقبل لابنته.

عامل شاي بلا شاي

مع حلول الليل يتحول إلى عامل شاي يجر إبريقًا نحاسيًا ثقيلاً يصبّ الأكواب للجنود في الحواجز، للبائعين، للمارة يوزع الدفء وهو نفسه يتجمد من الداخل لم يشرب كوبًا واحدًا منذ شهر كل مرة يرفع الإبريق يتساءل: “كيف صار الشاي حلمًا؟ كيف صار كوب السكر ترفًا؟” ثم يضحك في سره: هذه البلاد تحترف إذلال أهلها حتى كوب الشاي صار أداة قمع.

الدرج مقبرة الكلمات

في الليل حين ينام أولاده يفتح درجًا قديمًا في غرفته يخرج منه أوراقًا كتبها في لحظات الغضب مقالات عن الرواتب المنهوبة، قصص عن الجوع، نصوص تصرخ في وجه كل شيء كل ورقة تبدأ بنفس العبارة:
“نحن نستحق حياة أفضل” ثم تتوقف فجأة ليس لأنه عاجز عن الكتابة بل لأنه يعرف أن نشر هذه الأوراق يعني اختفاءه هو يكتب ليحيا لكنه لا ينشر كي لا يموت الحرية عنده حبيسة درج خشبي مؤجلة مثل كل شيء في هذه البلاد.

الأعلام والجوع

في الأعياد الرسمية تمتلئ المدينة بالأعلام واللافتات مكبرات الصوت تصدح بالأناشيد والسماء تمتلئ بالخطابات التي تتحدث عن “النصر” أبو كريم يسير وسط الزحام ينظر إلى الوجوه حوله: أطفال حفاة يبحثون عن كسرة خبز، نساء يتفاوضن على بقايا خضار تالفة، رجال يبيعون ما تبقى من كرامتهم، المدينة ترفع راياتها عاليًا، لكنها في الداخل تركع للجوع.

الظلام الذي يفضح

كل ليلة يجلس مع أسرته حول شمعة وحيدة الضوء الضعيف يكشف كل شيء: الجدران المتهالكة، وجوه أولاده الشاحبة، دفتر الديون المفتوح على الطاولة تقول سلمى: “بابا، الظلام يخوفني.” يبتسم ابتسامة ساخرة، ويقول:
“لا يا بنتي الظلام ما يخوف الظلام يفضح فيه نرى الحقيقة بوضوح أكبر من أي خطاب”

رجل يبتلع الصمت

أبو كريم هو مرآة لصنعاء نفسها مدينة تبتلع الصمت كل يوم.
هو الموظف الذي صار متسولًا.
هو الأب الذي صار عاجزًا.
هو الكاتب الذي صار سجّان كلماته.
هو المواطن الذي يرى المساعدات تمر أمام عينيه لكنه ينام جائعًا.
كل شيء من حوله يتحول إلى رمز للهزيمة: الشاحنات، الباصات، الأعلام، الأكواب، حتى الشمعة.

لكن رغم ذلك، يفتح دفتره كل شهر، ويكتب كعادته: “شهر بلا راتب” جملة قصيرة لكنها أجرأ من أي بيان رسمي.
هي شهادته الوحيدة على زمنٍ اختلط فيه النصر بالهزيمة، والكرامة بالذل، والصمت بالكتابة.

خاتمة

في النهاية أبو كريم ليس بطلًا خارقًا ولا متمردًا مسلحًا هو مجرد أب، رجل عادي، لكنه يحمل في داخله ثقل مدينة بأكملها دفتره الأسود، إبريقه النحاسي، درج أوراقه المغلقة، كلها شواهد على حياة مسروقة.

وحين يُسأل عن مستقبله، عن أولاده، عن مدينته، لا يجيب.
بل يبتلع صمته كما ابتلع كل شيء من قبل.
لأنه يعرف أن الكلام في هذه المدينة قد يكون آخر ما يقوله المرء.